فصل: الفصل السَّادِسُ: شَرَفُ نَسَبِهِ، وَكَرَمُ بَلَدِهِ وَمَنْشَئِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ***


الباب الثَّانِي‏:‏ فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ الْمَحَاسِنَ خَلْقًا، وَخُلُقًا، وَقِرَانِهِ جَمِيعَ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ فِيهِ نَسَقًا

مُقَدِّمَةُ الْبَابِ الثَّانِي

اعْلَمْ أَيُّهَا الْمُحِبُّ لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، الْبَاحِثُ عَنْ تَفَاصِيلِ جُمَلِ قَدْرِهِ الْعَظِيمِ أَنَّ خِصَالَ الْجَلَالِ، وَالْكَمَالِ فِي الْبَشَرِ نَوْعَانِ‏:‏ ضَرُورِيٌّ دُنْيَوِيٌّ اقْتَضَتْهُ الْجِبِلَّةُ، وَضَرُورَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمُكْتَسَبٌ دِينِيٌّ، وَهُوَ مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ، وَيُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى زُلْفَى‏.‏ ثُمَّ هِيَ عَلَى فَنَّيْنِ أَيْضًا‏:‏ مِنْهَا مَا يَتَخَلَّصُ لِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَتَمَازَجُ، وَيَتَدَاخَلُ‏.‏ فَأَمَّا الضَّرُورِيُّ الْمَحْضُ فَمَا لَيْسَ لِلْمَرْءِ فِيهِ اخْتِيَارٌ، وَلَا اكْتِسَابٌ، مِثْلُ مَا كَانَ فِي جِبِلَّتِهِ مِنْ كَمَالِ خِلْقَتِهِ، وَجَمَالِ صُورَتِهِ، وَقُوَّةِ عَقْلِهِ، وَصِحَّةِ فَهْمِهِ، وَفَصَاحَةِ لِسَانِهِ وَقُوَّةِ حَوَاسِّهِ، وَأَعْضَائِهِ، وَاعْتِدَالِ حَرَكَاتِهِ، وَشَرَفِ نَسَبِهِ، وَعِزَّةِ قَوْمِهِ، وَكَرَمِ أَرْضِهِ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا تَدْعُوهُ ضَرُورَةُ حَيَاتِهِ إِلَيْهِ، مِنْ غِذَائِهِ، وَنَوْمِهِ، وَمَلْبَسِهِ، وَمَسْكَنِهِ، وَمَنْكَحِهِ، وَمَالِهِ، وَجَاهِهِ، وَقَدْ تَلْحَقُ هَذِهِ الْخِصَالُ الْآخِرَةُ بِالْأُخْرَوِيَّةِ إِذَا قَصَدَ بِهَا التَّقْوَى، وَمَعُونَةِ الْبَدَنِ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقِهَا، وَكَانَتْ عَلَى حُدُودِ الضَّرُورَةِ، وَقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا الْمُكْتَسَبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَسَائِرُ الْأَخْلَاقِ الْعَلِيَّةِ، وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ‏:‏ مِنَ الدِّينِ، وَالْعِلْمِ، وَالْحِلْمِ، وَالصَّبْرِ، وَالشُّكْرِ، وَالْمُرُوءَةِ، وَالزُّهْدِ، وَالتَّوَاضُعِ، وَالْعَفْوِ، وَالْعِفَّةِ، وَالْجُودِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَالْحَيَاءِ، وَالْمُرُوءَةِ، وَالصَّمْتِ، وَالتُّؤَدَةِ، وَالْوَقَارِ، وَالرَّحْمَةِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ، وَالْمُعَاشَرَةِ، وَأَخَوَاتِهَا، وَهِيَ الَّتِي جِمَاعُهَا حُسْنُ الْخُلُقِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ مَا هُوَ فِي الْغَرِيزَةِ، وَأَصْلِ الْجِبِلَّةِ لِبَعْضِ النَّاسِ، وَبَعْضُهُمْ لَا تَكُونُ فِيهِ، فَيَكْتَسِبُهَا، وَلَكِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ أُصُولِهَا فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ شُعْبَةٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ دُنْيَوِيَّةٌ إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَكِنَّهَا كُلُّهَا مَحَاسِنُ، وَفَضَائِلُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي مُوجِبِ حُسْنِهَا، وَتَفْضِيلِهَا‏.‏

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ‏:‏ خِصَالُ الْكَمَالِ، وَالْجَلَالِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ الْقَاضِي‏:‏ إِذَا كَانَتْ خِصَالُ الْكَمَالِ، وَالْجَمَالِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَرَأَيْنَا الْوَاحِدَ مِنَّا يَتَشَرَّفُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا أَوْ بِاثْنَتَيْنِ إِنِ اتَّفَقَتْ لَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ، إِمَّا مِنْ نَسَبٍ، أَوْ جَمَالٍ، أَوْ قُوَّةٍ، أَوْ عِلْمٍ، أَوْ حِلْمٍ، أَوْ شَجَاعَةٍ، أَوْ سَمَاحَةٍ، حَتَّى يَعْظُمَ قَدْرُهُ، وَيُضْرَبَ بِاسْمِهِ الْأَمْثَالُ، وَيَتَقَرَّرَ لَهُ بِالْوَصْفِ بِذَلِكَ فِي الْقُلُوبِ أَثَرَةٌ، وَعَظَمَةٌ، وَهُوَ مُنْذُ عُصُورٍ خَوَالٍ رِمَمٌ بَوَالٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِعَظِيمِ قَدْرِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ كُلُّ هَذِهِ الْخِصَالِ إِلَى مَا لَا يَأْخُذُهُ عَدُوٌّ، وَلَا يُعَبِّرُ عَنْهُ مَقَالٌ، وَلَا يُنَالُ بِكَسْبٍ، وَلَا حِيلَةٍ إِلَّا بِتَخْصِيصِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، مِنْ فَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ، وَالرِّسَالَةِ، وَالْخِلَّةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالِاصْطِفَاءِ، وَالْإِسْرَاءِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَالْقُرْبِ، وَالدُّنُوِّ، وَالْوَحْيِ، وَالشَّفَاعَةِ، وَالْوَسِيلَةِ، وَالْفَضِيلَةِ، وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَالْبُرَاقِ، وَالْمِعْرَاجِ، وَالْبَعْثِ إِلَى الْأَحْمَرِ، وَالْأَسْوَدِ، وَالصَّلَاةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالشَّهَادَةِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأُمَمِ، وَسِيَادَةِ وَلَدِ آدَمَ، وَلِوَاءِ الْحَمْدِ، وَالْبِشَارَةِ، وَالنِّذَارَةِ، وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ، وَالطَّاعَةِ ثُمَّ وَالْأَمَانَةِ، وَالْهِدَايَةِ، وَرَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ، وَإِعْطَاءِ الرِّضَا، وَالسُّؤْلِ، وَالْكَوْثَرِ، وَسَمَاعِ الْقَوْلِ، وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ، وَالْعَفْوِ عَمَّا تَقَدَّمَ، وَمَا تَأَخَّرَ، وَشَرْحِ الصَّدْرِ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ، وَرَفْعِ الذِّكْرِ، وَعِزَّةِ النَّصْرِ، وَنُزُولِ السَّكِينَةِ، وَالتَّأْيِيدِ بِالْمَلَائِكَةِ، وَإِيتَاءِ الْكِتَابِ، وَالْحِكْمَةِ، وَالسَّبْعِ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَزْكِيَةِ الْأُمَّةِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَصَلَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ، وَالْأَغْلَالِ عَنْهُمْ، وَالْقَسَمِ بِاسْمِهِ، وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَتَكْلِيمِ الْجَمَادَاتِ، وَالْعُجْمِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِسْمَاعِ الصُّمِّ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَتَكْثِيرِ الْقَلِيلِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَرَدِّ الشَّمْسِ، وَقَلْبِ الْأَعْيَانِ وَالنَّصْرِ بِالرُّعْبِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ، وَظِلِّ الْغَمَامِ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَا، وَإِبْرَاءِ الْآلَامِ، وَالْعِصْمَةِ مِنَ النَّاسِ، إِلَى مَا لَا يَحْوِيهِ مُحْتَفِلٌ، وَلَا يُحِيطُ بِعِلْمِهِ إِلَّا مَانِحُهُ ذَلِكَ، وَمُفَضِّلُهُ بِهِ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِلَى مَا أَعَدَّ لَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنْ مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ، وَدَرَجَاتِ الْقُدْسِ، وَمَرَاتِبِ السَّعَادَةِ، وَالْحُسْنَى، وَالزِّيَادَةِ الَّتِي تَقِفُ دُونَهَا الْعُقُولُ، وَيَحَارُ دُونَ إِدْرَاكِهَا الْوَهْمُ‏.‏

الفصل الثَّانِي‏:‏ صِفَاتُهُ الْخِلْقِيَّةُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

إِنْ قُلْتَ أَكْرَمَكَ اللَّهُ‏:‏ لَا خَفَاءَ عَلَى الْقَطْعِ بِالْجُمْلَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى النَّاسِ قَدْرًا، وَأَعْظَمُهُمْ مَحِلًّا، وَأَكْمَلُهُمْ مَحَاسِنَ وَفَضْلًا، وَقَدْ ذَهَبَ فِي تَفَاصِيلِ خِصَالِ الْكَمَالِ مَذْهَبًا جَمِيلًا شَوَّقَنِي إِلَى أَنْ أَقِفَ عَلَيْهَا مِنْ أَوْصَافِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْصِيلًا‏.‏‏.‏‏.‏

فَاعْلَمْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبِي وَقَلَبَكَ، وَضَاعَفَ فِي هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ حُبِّي، وَحُبَّكَ أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى خِصَالِ الْكَمَالِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ فِي جِبِلَّةِ الْخِلْقَةِ، وَجَدْتَهُ حَائِزًا لِجَمِيعِهَا، مُحِيطًا بِشَتَاتِ مَحَاسِنِهَا دُونَ خِلَافٍ بَيْنِ نَقَلَةِ الْأَخْبَارِ لِذَلِكَ، بَلْ قَدْ بَلَغَ بَعْضُهَا مَبْلَغَ الْقَطْعِ‏.‏

أَمَّا الصُّورَةُ، وَجَمَالُهَا، وَتَنَاسُبُ أَعْضَائِهِ فِي حُسْنِهَا، فَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ، وَالْمَشْهُورَةُ الْكَثِيرَةُ بِذَلِكَ، مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَابْنِ أَبِي هَالَةَ، وَأَبِي جُحَيْفَةَ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَأُمِّ مَعْبَدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُعَرِّضِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ، وَالْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، وَخُرَيْمِ بْنِ فَاتَكٍ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَزْهَرَ اللَّوْنِ، أَدْعَجَ، أَنْجَلَ، أَشْكَلَ، أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ، أَبْلَجَ، أَزَجَّ، أَقْنَى، أَفْلَجَ، مُدَوَّرَ الْوَجْهِ، وَاسِعَ الْجَبِينِ، كَثَّ اللِّحْيَةِ تَمْلَأُ صَدْرَهُ، سَوَاءَ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ، وَاسِعَ الصَّدْرِ، عَظِيمَ الْمَنْكِبَيْنِ، ضَخْمَ الْعِظَامِ، عَبْلَ الْعَضُدَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالْأَسَافِلِ، رَحْبَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، سَائِلَ الْأَطْرَافِ، أَنْوَرَ الْمُتَجَرَّدِ، دَقِيقَ الْمَسْرُبَةِ، رَبْعَةَ الْقَدِّ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ، مَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ يُمَاشِيهِ أَحَدٌ يُنْسَبُ إِلَى الطُّولِ إِلَّا طَاوَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجْلَ الشَّعْرِ، إِذَا افْتَرَّ ضَاحِكًا افْتَرَّ عَنْ مِثْلِ سَنَا الْبَرْقِ، وَعَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ، إِذَا تَكَلَّمَ رُئِيَ كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ ثَنَايَاهُ، أَحَسَنَ النَّاسِ عُنُقًا، لَيْسَ بِمُطَهَّمٍ، وَلَا مُكَلْثَمٍ، مُتَمَاسِكَ الْبَدَنِ، ضَرْبَ اللَّحْمِ‏.‏

قَالَ الْبَرَاءُ‏:‏ مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ ‏[‏مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا ضَحِكَ يَتَلَأْلَأُ فِي الْجُدُرِ‏]‏‏.‏

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ‏:‏ كَانَ وَجْهُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ السَّيْفِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏[‏لَا، بَلْ مِثْلَ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَكَانَ مُسْتَدِيرًا‏]‏‏.‏

وَقَالَتْ أُمُّ مَعْبَدٍ فِي بَعْضِ مَا وَصَفَتْهُ بِهِ‏:‏ ‏[‏أَجْمَلُ النَّاسِ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْلَاهُ، وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ‏]‏

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي هَالَةَ‏:‏ ‏[‏يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ تَلَأْلُؤَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ‏]‏‏.‏

وَقَالَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي آخِرِ وَصْفِهِ لَهُ‏:‏ ‏[‏مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ، يَقُولُ نَاعِتُهُ‏:‏ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏]‏‏.‏

وَالْأَحَادِيثُ فِي بَسْطِ صِفَتِهِ مَشْهُورَةٌ كَثِيرَةٌ، فَلَا نُطَوِّلُ بِسَرْدِهَا، وَقَدِ اخْتَصَرْنَا فِي وَصْفِهِ نُكَتَ مَا جَاءَ فِيهَا، وَجُمْلَةً مِمَّا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي الْقَصْدِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَخَتَمْنَا هَذِهِ الْفُصُولَ بِحَدِيثٍ جَامِعٍ لِذَلِكَ نَقِفُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

الفصل الثَّالِثُ‏:‏ نَظَافَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَأَمَّا نَظَافَةُ جِسْمِهِ، وَطِيبُ رِيحِهِ وَعَرَقِهِ، وَنَزَاهَتُهُ عَنِ الْأَقْذَارِ، وَعَوْرَاتِ الْجَسَدِ فَكَانَ قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بِخَصَائِصَ لَمْ تُوجَدْ فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ تَمَّمَهَا بِنَظَافَةِ الشَّرْعِ، وَخِصَالِ الْفِطْرَةِ الْعَشْرِ، وَقَالَ‏:‏ «بُنِيَ الدِّينُ عَلَى النَّظَافَةِ»‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ الْعَاصِي، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قَالُوا‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ‏:‏ ‏[‏مَا شَمَمْتُ عَنْبَرًا قَطُّ، وَلَا مِسْكًا، وَلَا شَيْئًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏]‏‏.‏

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ‏:‏ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ خَدَّهُ، قَالَ‏:‏ فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا، وَرِيحًا، كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ‏.‏ قَالَ غَيْرُهُ‏:‏ مَسَّهَا بِطِيبٍ أَوْ لَمْ يَمَسَّهَا، يُصَافِحُ الْمُصَافِحَ فَيَظَلُّ يَوْمَهُ يَجِدُ رِيحَهَا، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ فَيُعْرَفُ مِنْ بَيْنِ الصِّبْيَانِ بِرِيحِهَا، وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ أَنَسٍ فَعَرِقَ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ بِقَارُورَةٍ تَجْمَعُ فِيهَا عَرَقَهُ فَسَأَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ‏:‏ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ‏.‏

وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ، عَنْ جَابِرٍ‏:‏ ‏[‏لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ فِي طَرِيقٍ فَيَتْبَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا عَرَفَ أَنَّهُ سَلَكَهُ مِنْ طِيبِهِ‏]‏‏.‏

وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ رَائِحَتُهُ بِلَا طِيبٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

‏[‏وَرَوَى الْمُزْنِيُّ‏:‏ عَنْ جَابِرٍ‏:‏ أَرْدَفَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ، فَالْتَقَمْتُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ بِفَمِي، فَكَانَ يَنِمُّ عَلَيَّ مِسْكًا‏]‏، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْمُعْتَنِينَ بِأَخْبَارِهِ، وَشَمَائِلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَغَوَّطَ انْشَقَّتِ الْأَرْضُ فَابْتَلَعَتْ غَائِطَهُ، وَبَوْلَهُ، وَفَاحَتْ لِذَلِكَ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

‏[‏وَأَسْنَدَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ فِي هَذَا خَبَرًا عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّكَ تَأْتِي الْخَلَاءَ فَلَا نَرَى مِنْكَ شَيْئًا مِنَ الْأَذَى‏!‏ فَقَالَ‏:‏ «يَا عَائِشَةُ، أَوَمَا عَلِمْتِ أَنَّ الْأَرْضَ تَبْتَلِعُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ»، وَهَذَا الْخَبَرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِطَهَارَةِ الْحَدَثَيْنِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ

‏[‏حَكَاهُ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي شَامِلِهِ‏]‏، وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ عَنِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَابِقٍ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَدِيعُ فِي فُرُوعِ الْمَالِكِيَّةِ، وَتَخْرِيجُ مَا لَمْ يَقَعْ لَهُمْ مِنْهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ مِنْ تَفَارِيعِ الشَّافِعِيَّةِ، وَشَاهِدُ هَذَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ يُكْرَهُ، وَلَا غَيْرُ طَيِّبٍ‏.‏

وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ ‏[‏غَسَّلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَيِّتِ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا، فَقُلْتُ‏:‏ طِبْتَ حَيًّا، وَمَيِّتًا، قَالَ‏:‏ وَسَطَعَتْ مِنْهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ لَمْ نَجِدْ مِثْلَهَا قَطُّ‏]‏‏.‏

وَمِثْلُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ قَبَّلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ‏.‏

وَمِنْهُ شُرْبُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ دَمَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَصُّهُ إِيَّاهُ، وَتَسْوِيغُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَهُ، وَقَوْلُهُ لَهُ‏:‏ «لَنْ تُصِيبَهُ النَّارُ» وَمِثْلُهُ شُرْبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ دَمَ حِجَامَتِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْكَ» وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوٌ مَنْ هَذَا عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ شَرِبَتْ بَوْلَهُ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ لَنْ تَشْتَكِي وَجَعَ بَطْنِكِ أَبَدًا، وَلَمْ يَأْمُرْ، وَاحِدًا مِنْهُمْ بِغَسْلِ فَمٍ، وَلَا نَهَاهُ عَنْ عَوْدَةٍ، وَحَدِيثُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي شَرِبَتْ بَوْلَهُ صَحِيحٌ أَلْزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ مُسْلِمًا، وَالْبُخَارِيَّ إِخْرَاجَهُ فِي الصَّحِيحِ، وَاسْمُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بَرَكَةُ، وَاخْتُلِفَ فِي نَسَبِهَا، وَقِيلَ‏:‏ هِيَ أُمُّ أَيْمَنَ وَكَانَتْ تَخْدِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ‏:‏ وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ يُوضَعُ تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَبَالَ فِيهِ لَيْلَةً، ثُمَّ افْتَقَدَهُ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا‏.‏ فَسَأَلَ بَرَكَةَ عَنْهُ، فَقَالَتْ‏:‏ قُمْتُ وَأَنَا عَطْشَانَةٌ فَشَرِبْتُهُ، وَأَنَا لَا أَعْلَمُ‏.‏ رَوَى حَدِيثَهَا ابْنُ جُرَيْجٍ، وَغَيْرُهُ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وُلِدَ مَخْتُونًا مَقْطُوعَ السُّرَّةِ‏.‏

‏[‏وَرُوِيَ عَنْ أُمِّهِ آمِنَةَ أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏ قَدْ وَلَدْتُهُ نَظِيفًا مَا بِهِ قَذَرٌ‏]‏‏.‏

وَعَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-‏:‏ ‏[‏مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ‏]‏، وَعَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ أَوْصَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُغَسِّلُهُ غَيْرِي، فَإِنَّهُ لَا يَرَى أَحَدٌ عَوْرَتِي إِلَّا طُمِسَتْ عَيْنَاهُ، وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-‏:‏ ‏[‏أَنَّهُ نَامَ حَتَّى سُمِعَ لَهُ غَطِيطٌ، فَقَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ‏]‏، قَالَ عِكْرِمَةُ‏:‏ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَحْفُوظًا‏.‏

الفصل الرَّابِعُ‏:‏ رَجَاحَةُ عَقْلِهِ، وَفَصَاحَةُ لِسَانِهِ

وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ، وَذَكَاءُ لُبِّهِ، وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ، وَفَصَاحَةُ لِسَانِهِ وَاعْتِدَالُ حَرَكَاتِهِ، وَحُسْنُ شَمَائِلِهِ فَلَا مِرْيَةَ أَنَّهُ كَانَ أَعْقَلَ النَّاسِ، وَأَذْكَاهُمْ، وَمَنْ تَأَمَّلَ تَدْبِيرَهُ أَمْرَ بَوَاطِنِ الْخَلْقِ، وَظَوَاهِرِهِمْ، وَسِيَاسَةِ الْعَامَّةِ، وَالْخَاصَّةِ، مَعَ عَجِيبِ شَمَائِلِهِ، وَبَدِيعِ سِيَرِهِ، فَضْلًا عَمَّا أَفَاضَهُ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَرَّرَهُ مِنَ الشَّرْعِ دُونَ تَعَلُّمٍ سَبَقَ، وَلَا مُمَارَسَةٍ تَقَدَّمَتْ، وَلَا مُطَالَعَةٍ لِلْكُتُبِ مِنْهُ، لَمْ يَمْتَرِ فِي رُجْحَانِ عَقْلِهِ، وَثُقُوبِ فَهْمِهِ لِأَوَّلِ بَدِيهَةٍ، وَهَذَا مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِهِ لِتَحَقُّقِهِ، وَقَدْ قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ‏:‏ قَرَأْتُ فِي أَحَدٍ وَسَبْعِينَ كِتَابًا، فَوَجَدْتُ فِي جَمِيعِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلًا، وَأَفْضَلُهُمْ رَأْيًا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى‏:‏ فَوَجَدْتُ فِي جَمِيعِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعْطِ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ بَدْءِ الدُّنْيَا إِلَى انْقِضَائِهَا مِنَ الْعَقْلِ فِي جَنْبِ عَقْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا كَحَبَّةِ رَمْلٍ مِنْ بَيْنِ رِمَالِ الدُّنْيَا‏.‏

وَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏[‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ يَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ‏]‏، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 218‏]‏، وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» وَنَحْوُهُ عَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِثْلُهُ، قَالَتْ‏:‏ زِيَادَةٌ زَادَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا فِي حَجَّتِهِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ‏:‏ «إِنِّي لَأَنْظُرُ مِنْ وَرَائِي كَمَا أَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ» وَفِي أُخْرَى‏:‏ «إِنِّي لَأُبْصِرُ مِنْ قَفَايَ كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ» وَحَكَى بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى فِي الظُّلْمَةِ كَمَا يَرَى فِي الضَّوْءِ‏.‏

وَالْأَخْبَارُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالشَّيَاطِينِ، وَرَفْعِ النَّجَاشِيِّ لَهُ حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ وَصَفَهُ لِقُرَيْشٍ، وَالْكَعْبَةِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَهُ‏.‏

وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى فِي الثُّرَيَّا أَحَدَ عَشَرَ نَجْمًا، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى رَدِّهَا إِلَى الْعِلْمِ، وَالظَّوَاهِرُ تُخَالِفُهُ، وَلَا إِحَالَةَ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَخِصَالِهِمْ، كَمَا أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْعَدْلُ مِنْ كِتَابِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ الْفَرْغَانِيُّ، حَدَّثَتْنَا أُمُّ الْقَاسِمِ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهَا، حَدَّثَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَسَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «لَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُبْصِرُ النَّمْلَةَ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ مَسِيرَةَ عَشَرَةِ فَرَاسِخَ، وَلَا يَبْعُدُ عَلَى هَذَا أَنْ يَخْتَصَّ نَبِيُّنَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَعْدَ الْإِسْرَاءِ، وَالْحُظْوَةِ بِمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى‏.‏

وَقَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهُ صَرَعَ رُكَانَةَ أَشَدَّ أَهْلِ وَقْتِهِ، وَكَانَ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَصَارَعَ أَبَا رُكَانَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ شَدِيدًا، وَعَاوَدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَصْرَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْيِهِ، كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا، وَهُوَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ، وَفِي صِفَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ضَحِكَهُ كَانَ تَبَسُّمًا، إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا، وَإِذَا مَشَى مَشَى تَقَلُّعًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ‏.‏

الفصل الْخَامِسُ‏:‏ فَصَاحَةُ لِسَانِهِ وَبَلَاغَتُهُ

وَأَمَّا فَصَاحَةُ اللِّسَانِ وَبَلَاغَةُ الْقَوْلِ، فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ، وَالْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُجْهَلُ، سَلَاسَةَ طَبْعٍ، وَبَرَاعَةَ مَنْزَعٍ، وَإِيجَازَ مَقْطَعٍ، وَنَصَاعَةَ لَفْظٍ، وَجَزَالَةَ قَوْلٍ، وَصِحَّةَ مَعَانٍ وَقِلَّةَ تَكَلُّفٍ، أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَخُصَّ بِبَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَعِلْمِ أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، يُخَاطِبُ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْهَا بِلِسَانِهَا، وَيُحَاوِرُهَا بِلُغَتِهَا، وَيُبَارِيهَا فِي مَنْزَعِ بَلَاغَتِهَا، حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُونَهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ عَنْ شَرْحِ كَلَامِهِ، وَتَفْسِيرِ قَوْلِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ حَدِيثَهُ، وَسِيَرَهُ عَلِمَ ذَلِكَ، وَتَحَقَّقَهُ، وَلَيْسَ كَلَامُهُ مَعَ قُرَيْشٍ، وَالْأَنْصَارِ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَنَجْدٍ كَكَلَامِهِ مَعَ ذِي الْمِشْعَارِ الْهَمَدَانِيِّ، وَطِهْفَةَ النَّهْدِيِّ، وَقَطَنِ بْنِ حَارِثَةَ الْعُلَيْمِيِّ، وَالْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَقْيَالِ حَضْرَمَوْتَ، وَمُلُوكِ الْيَمَنِ وَانْظُرْ كِتَابَهُ إِلَى هَمَدَانَ‏:‏ «إِنَّ لَكُمْ فَرَاعَهَا، وَوِهَاطَهَا، وَعَزَازَهَا، تَأْكُلُونَ عِلَافَهَا، وَتَرْعَوْنَ عَفَاءَهَا، لَنَا مِنْ دِفْئِهِمْ، وَصِرَامِهِمْ مَا سَلَّمُوا بِالْمِيثَاقِ، وَالْأَمَانَةِ، وَلَهُمْ مِنَ الصَّدَقَةِ الثِّلْبُ، وَالنَّابُ، وَالْفَصِيلُ، وَالْفَارِضُ، وَالدَّاجِنُ، وَالْكَبْشُ الْحَوَارِيُّ، وَعَلَيْهِمْ فِيهَا الصَّالِغُ، وَالْقَارِحُ»‏.‏

وَقَوْلُهُ لِنَهْدٍ‏:‏ «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مَحْضِهَا، وَمَخْضِهَا، وَمَذْقِهَا، وَابْعَثْ رَاعِيَهَا فِي الدَّثْرِ، وَافْجُرْ لَهُ الثَّمَدَ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِي الْمَالِ، وَالْوَلَدِ، مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ كَانَ مُسْلِمًا، وَمَنْ آتَى الزَّكَاةَ كَانَ مُحْسِنًا، وَمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَانَ مُخْلِصًا، لَكُمْ يَا بَنِي نَهْدٍ وَدَائِعُ الشِّرْكِ، وَوَضَائِعُ الْمُلْكِ، لَا تُلْطِطْ فِي الزَّكَاةِ، وَلَا تُلْحِدْ فِي الْحَيَاةِ، وَلَا تَتَثَاقَلْ عَنِ الصَّلَاةِ»‏.‏

وَكَتَبَ لَهُمْ فِي الْوَظِيفَةِ الْفَرِيضَةِ‏:‏ «وَلَكُمُ الْفَارِضُ، وَالْفَرِيشُ، وَذُو الْعِنَانِ الرَّكُوبُ، وَالْفَلُوُّ الضَّبِيسُ، لَا يُمْنَعُ سَرْحُكُمْ، وَلَا يُعْضَدُ طَلْحُكُمْ، وَلَا يُحْبَسُ دَرُّكُمْ مَا لَمْ تُضْمِرُوا الرِّمَاقَ، وَتَأْكُلُوا الرِّبَاقَ، مَنْ أَقَرَّ فَلَهُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالذِّمَّةِ، وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الرَّبْوَةُ»‏.‏

وَمِنْ كِتَابِهِ لِوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ»‏.‏ إِلَى الْأَقْيَالِ الْعَبَاهِلَةِ، وَالْأَوْرَاعِ الْمَشَابِيبِ»‏.‏ وَفِيهِ‏:‏ «فِي التِّيعَةِ شَاةٌ، لَا مُقَوَّرَةُ الْأَلْيَاطِ، وَلَا ضِنَاكَ، وَأَنْطُوا الثِّيجَةَ، وَفِي السُّيُوبُ الْخُمُسُ، وَمَنْ زَنَى مِمْ بِكْرٍ فَاصْقَعُوهُ مِائَةً، وَاسْتَوْفِضُوهُ عَامًا، وَمَنْ زَنَى مِمْ ثَيِّبٍ، وَضَرِّجُوهُ بِالْأَضَامِيمِ، وَلَا تَوْصِيمَ فِي الدِّينِ، وَلَا عَمَةَ فِي فَرَائِضِ اللَّهِ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ يَتَرَفَّلُ عَلَى الْأَقْيَالِ»‏.‏

أَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِهِ لِأَنَسٍ فِي الصَّدَقَةِ الْمَشْهُورِ‏.‏ لَمَّا كَانَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَبَلَاغَتُهُمْ عَلَى هَذَا النَّمَطِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِمْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ‏؟‏ اسْتَعْمَلَهَا مَعَهُمْ، لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَلِيُحَدِّثَ النَّاسَ بِمَا يَعْمَلُونَ، وَكَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ‏:‏ «فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْطِيَةُ، وَالْيَدَ السُّفْلَى هِيَ الْمُنْطَاةُ»‏.‏ قَالَ‏:‏ فَكَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُغَتِنَا‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْعَامِرِيِّ حِينَ سَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ هَلْ عَنْكَ ‏"‏‏:‏ أَيْ سَلْ عَمَّا شِئْتَ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَامِرٍ‏.‏ وَأَمَّا كَلَامُهُ الْمُعْتَادُ، وَفَصَاحَتُهُ الْمَعْلُومَةُ، وَجَوَامِعُ كَلِمِهِ، وَحِكَمُهُ الْمَأْثُورَةُ فَقَدْ أَلَّفَ النَّاسُ فِيهَا الدَّوَاوِينَ، وَجُمِعَتْ فِي أَلْفَاظِهَا، وَمَعَانِيهَا الْكُتُبُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُوَازَى فَصَاحَةً، وَلَا يُبَارَى بَلَاغَةً، كَقَوْلِهِ‏:‏ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «النَّاسُ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ»‏.‏ وَ«الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَكَ مَا تَرَى لَهُ»‏.‏ وَ«النَّاسُ مَعَادِنُ»‏.‏» وَمَا هَلَكَ امْرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَهُ»‏.‏» وَالْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ وَهُوَ بِالْخَيْرِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ»‏.‏ «وَرَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ»‏.‏» وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجَالِسَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا الَّذِينَ يَأْلَفُونَ، وَيُؤْلَفُونَ»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، وَيَبْخَلُ بِمَا لَا يُغْنِيهِ»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «ذُو الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا» وَنَهْيُهُ عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَمَنْعٍ، وَهَاتٍ، وَعُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ الْبَنَاتِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ‏.‏ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا»‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ دُعَائِهِ‏:‏ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي، وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي، وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِي، وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي، وَتُزَكِّي بِهَا عِلْمِي، وَتُلْهِمُنِي بِهَا رُشْدِي، وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي، وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ‏.‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْفَوْزَ عِنْدَ الْقَضَاءِ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ»‏.‏ إِلَى مَا رَوَتْهُ الْكَافَّةُ عَنِ الْكَافَّةِ مِنْ مَقَامَاتِهِ، وَمُحَاضَرَاتِهِ، وَخُطَبِهِ، وَأَدْعِيَتِهِ، وَمُخَاطَبَاتِهِ، وَعُهُودِهِ، مِمَّا لَا خِلَافَ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ ذَلِكَ مَرْتَبَةً لَا يُقَاسُ بِهَا غَيْرُهُ، وَحَازَ فِيهَا سَبْقًا لَا يُقْدَرُ قَدْرُهُ، وَقَدْ جَمَعْتُ مِنْ كَلِمَاتِهِ الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا، وَلَا قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يُفْرِغَ فِي قَالِبِهِ عَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ‏:‏ «حَمِيَ الْوَطِيسُ»‏.‏ وَ«مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ» وَ«لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ»‏.‏ وَ«السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ‏.‏»‏.‏ فِي أَخَوَاتِهَا مِمَّا يُدْرِكُ النَّاظِرُ الْعَجَبَ فِي مُضَمَّنِهَا، وَيَذْهَبُ بِهِ الْفِكْرُ فِي أَدَانِي حِكَمِهَا، وَقَدْ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ‏:‏ مَا رَأَيْنَا الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ مِنْكَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ «وَمَا يَمْنَعُنِي‏؟‏ وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِي، لِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى‏:‏ «بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ»‏.‏ فَجُمِعَ لَهُ بِذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُوَّةُ عَارِضَةِ الْبَادِيَةِ، وَجَزَالَتُهَا، وَنَصَاعَةُ أَلْفَاظِ الْحَاضِرَةِ، وَرَوْنَقُ كَلَامِهَا، إِلَى التَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي مَدَدُهُ الْوَحْيُ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِعِلْمِهِ بَشَرِيٌّ وَقَالَتْ أُمُّ مَعْبَدٍ فِي وَصْفِهَا لَهُ‏:‏ حُلْوُ الْمَنْطِقِ، فَصْلٌ لَا نَزْرٌ، وَلَا هَذْرٌ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتٌ نُظِمْنَ‏.‏ وَكَانَ جَهِيرَ الصَّوْتِ، حَسَنَ النَّغْمَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

الفصل السَّادِسُ‏:‏ شَرَفُ نَسَبِهِ، وَكَرَمُ بَلَدِهِ وَمَنْشَئِهِ

وَأَمَّا شَرَفُ نَسَبِهِ، وَكَرَمُ بَلَدِهِ، وَمَنْشَئِهِ فَمِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ، وَلَا بَيَانِ مُشْكِلٍ، وَلَا خَفِيٍّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ نُخْبَةُ بَنِي هَاشِمٍ، وَسُلَالَةُ قُرَيْشٍ، وَصَمِيمُهَا، وَأَشْرَفُ الْعَرَبِ، وَأَعَزُّهُمْ نَفَرًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، وَأُمِّهِ، وَمِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ أَكْرَمِ بِلَادِ اللَّهِ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى عِبَادِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا قَاضِي الْقُضَاةِ حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّدَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ عَبْدُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ‏:‏ قَالُوا‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ مِنْهُ» وَعَنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهِمْ، مِنْ خَيْرِ قَرْنِهِمْ، ثُمَّ تَخَيَّرَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ قَبِيلَةٍ، ثُمَّ تَخَيَّرَ الْبُيُوتَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ بُيُوتِهِمْ، فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا، وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا»‏.‏

وَعَنْ، وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»‏.‏ قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَفِي حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ خَلْقَهُ، فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي آدَمَ فَاخْتَارَ مِنْهُمُ الْعَرَبَ، ثُمَّ اخْتَارَ الْعَرَبَ فَاخْتَارَ مِنْهُمْ قُرَيْشًا، ثُمَّ اخْتَارَ قُرَيْشًا فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي هَاشِمٍ فَاخْتَارَنِي مِنْهُمْ، فَلَمْ أَزَلْ خِيَارًا مِنْ خِيَارٍ، أَلَا مَنْ أَحَبَّ الْعَرَبِ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَ الْعَرَبَ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ رُوحُهُ نُورًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، يُسَبِّحُ ذَلِكَ النُّورُ، وَتُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِهِ، فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَلْقَى ذَلِكَ النُّورَ فِي صُلْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «فَأَهْبَطَنِي اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ فِي صُلْبِ آدَمَ، وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ، وَقَذَفَ بِي فِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُنِي مِنَ الْأَصْلَابِ الْكَرِيمَةِ، وَالْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى أَخْرَجَنِي مِنْ بَيْنِ أَبَوَيَّ لَمْ يَلْتَقِيَا عَلَى سِفَاحٍ قَطُّ»‏.‏ وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ شِعْرُ الْعَبَّاسِ الْمَشْهُورُ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

الفصل السَّابِعُ‏:‏ حَالَتُهُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَأَمَّا مَا تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ ضُرُوبٍ‏:‏ ضَرْبُ الْفَضْلِ فِي قِلَّتِهِ، وَضَرْبُ الْفَضْلِ فِي كَثْرَتِهِ، وَضَرْبٌ تَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ فِيهِ‏.‏ فَأَمَّا مَا التَّمَدُّحُ، وَالْكَمَالُ بِقِلَّتِهِ اتِّفَاقًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، عَادَةً، وَشَرِيعَةً، كَالْغِذَاءِ، وَالنَّوْمِ، وَلَمْ تَزَلِ الْعَرَبُ، وَالْحُكَمَاءُ تَتَمَادَحُ بِقِلَّتِهِمَا، وَتَذُمُّ بِكَثْرَتِهِمَا، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ دَلِيلٌ عَلَى النَّهَمِ، وَالْحِرْصِ، وَالشَّرَهِ، وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ مُسَبِّبٌ لِمَضَارِّ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ، جَالِبٌ لِأَدْوَاءِ الْجَسَدِ، وَخَثَارَةِ النَّفْسِ، وَامْتِلَاءِ الدِّمَاغِ، وَقِلَّتُهُ دَلِيلٌ عَلَى الْقَنَاعَةِ، وَمِلْكُ النَّفْسِ، وَقَمْعُ الشَّهْوَةِ مُسَبِّبٌ لِلصِّحَّةِ، وَصَفَاءِ الْخَاطِرِ، وَحِدَّةِ الذِّهْنِ، كَمَا أَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ دَلِيلٌ عَلَى الْفُسُولَةِ، وَالضَّعْفِ، وَعَدَمِ الذَّكَاءِ، وَالْفِطْنَةِ، مُسَبِّبٌ لِلْكَسَلِ، وَعَادَةِ الْعَجْزِ، وَتَضْيِيعِ الْعُمْرِ فِي غَيْرِ نَفْعٍ، وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ، وَغَفْلَتِهِ، وَمَوْتِهِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى هَذَا مَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً، وَيُوجَدُ مُشَاهَدَةً، وَيُنْقَلُ مُتَوَاتِرًا مِنْ كَلَامِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْحُكَمَاءِ السَّابِقِينَ، وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ، وَأَخْبَارِهَا، وَصَحِيحِ الْحَدِيثِ، وَآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَخَلَفَ، مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِ اخْتِصَارًا، وَاقْتِصَارًا عَلَى اشْتِهَارِ الْعِلْمِ بِهِ‏.‏

وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَ مِنْ هَذَيْنِ الْفَنَّيْنِ بِالْأَقَلِّ‏.‏ هَذَا مَا لَا يُدْفَعُ مِنْ سِيرَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَحَضَّ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا بِارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ‏.‏

‏[‏حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ الْحَافِظُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ أَنَّ يَحْيَى بْنَ جَابِرٍ حَدَّثَهُ‏]‏ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» وَلِأَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ‏.‏ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ‏:‏ بِقِلَّةِ الطَّعَامِ يُمْلَكُ سَهَرُ اللَّيْلِ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ لَا تَأْكُلُوا كَثِيرًا فَتَشْرَبُوا كَثِيرًا، فَتَرْقُدُوا كَثِيرًا، فَتَخْسَرُوا كَثِيرًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى ضَفَفٍ، أَيْ كَثْرَةِ الْأَيْدِي، وَعَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-‏:‏ لَمْ يَمْتَلِئْ جَوْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِبَعًا قَطُّ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ لَا يَسْأَلُهُمْ طَعَامًا، وَلَا يَتَشَهَّاهُ، إِنْ أَطْعَمُوهُ أَكَلَ، وَمَا أَطْعَمُوهُ قَبِلَ، وَمَا سَقَوْهُ شَرِبَ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ، وَقَوْلِهِ‏:‏ أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ‏.‏ إِذْ لَعَلَّ سَبَبَ سُؤَالِهِ ظَنُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ، فَأَرَادَ بَيَانَ سُنَّتِهِ، إِذْ رَآهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوهُ إِلَيْهِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْهِ بِهِ، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ ظَنُّهُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا جَهِلُوهُ مِنْ أَمْرِهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ، وَفِي حِكْمَةِ لُقْمَانَ‏:‏ يَا بُنَيَّ، إِذَا امْتَلَأَتِ الْمَعِدَةُ نَامَتِ الْفِكْرَةُ، وَخَرِسَتِ الْحِكْمَةُ، وَقَعَدَتِ الْأَعْضَاءُ عَنِ الْعِبَادَةِ‏.‏ وَقَالَ سَحْنُونُ‏:‏ لَا يَصْلُحُ الْعِلْمُ لِمَنْ يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا»‏.‏ وَالِاتِّكَاءُ‏:‏ هُوَ التَّمَكُّنُ لِلْأَكْلِ، وَالتَّقَعْدُدُ فِي الْجُلُوسِ لَهُ كَالْمُتَرَبِّعِ، وَشِبْهِهِ مِنْ تَمَكُّنِ الْجَلْسَاتِ الَّتِي يَعْتَمِدُ فِيهَا الْجَالِسُ عَلَى مَا تَحْتَهُ، وَالْجَالِسُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ يَسْتَدْعِي الْأَكْلَ، وَيَسْتَكْثِرُ مِنْهُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ جُلُوسُهُ لِلْأَكْلِ جُلُوسَ الْمُسْتَوْفِزِ مُقْعِيًا، وَيَقُولُ‏:‏ «إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ»‏.‏

وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ فِي الِاتِّكَاءِ الْمَيْلُ عَلَى شِقٍّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ‏.‏ وَكَذَلِكَ نَوْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَلِيلًا، شَهِدَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ‏:‏ «إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي»‏.‏ وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ اسْتِظْهَارًا عَلَى قِلَّةِ النَّوْمِ، لِأَنَّهُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ أَهْنَأُ، لِهُدُوِّ الْقَلْبِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنِيَّةِ حِينَئِذٍ، لِمَيْلِهَا إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، فَيَسْتَدْعِي ذَلِكَ الِاسْتِثْقَالَ فِيهِ، وَالطُّولَ، وَإِذَا نَامَ النَّائِمُ عَلَى الْأَيْمَنِ تَعَلَّقَ الْقَلْبُ، وَقَلِقَ، فَأَسْرَعَ الْإِفَاقَةَ، وَلَمْ يَغْمُرْهُ الِاسْتِغْرَاقُ‏.‏

الفصل الثَّامِنُ‏:‏ زَوَاجُهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا يَتَّفِقُ الْمَدْحُ بِكَثْرَتِهِ، وَالْفَخْرُ بِوُفُورِهِ، كَالنِّكَاحِ، وَالْجَاهِ‏.‏

أَمَّا النِّكَاحُ فَمُتَّفَقٌ فِيهِ شَرْعًا، وَعَادَةً، فَإِنَّهُ دَلِيلُ الْكَمَالِ، وَصِحَّةِ الذُّكُورِيَّةِ، وَلَمْ يَزَلِ التَّفَاخُرُ بِكَثْرَتِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالتَّمَادُحُ بِهِ سِيرَةٌ مَاضِيَةٌ، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَسُنَّةٌ مَأْثُورَةٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً يُشِيرُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُبَاهٍ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»‏.‏ وَنَهَى عَنِ التَّبَتُّلِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قَمْعِ الشَّهْوَةِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ اللَّذَيْنِ نَبَّهَ عَلَيْهِمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ «مَنْ كَانَ ذَا طَوْلٍ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» حَتَّى لَمْ يَرَهُ الْعُلَمَاءُ مِمَّا يَقْدَحُ فِي الزُّهْدِ‏.‏

قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ قَدْ حُبِّبْنَ إِلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، فَكَيْفَ يُزْهَدُ فِيهِنَّ‏؟‏ وَنَحْوُهُ لِابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ كَانَ زُهَّادُ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- كَثِيرِي الزَّوْجَاتِ، وَالسَّرَارِيِّ، كَثِيرِي النِّكَاحِ، وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمْ غَيْرُ شَيْءٍ، وَقَدْ كَرِهَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ عَزَبًا‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَيْفَ يَكُونُ النِّكَاحُ، وَكَثْرَتُهُ مِنَ الْفَضَائِلِ، وَهَذَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ حَصُورًا، فَكَيْفَ يُثْنِي اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَجْزِ عَمَّا تَعُدُّهُ فَضِيلَةً‏؟‏‏.‏ وَهَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبَتَّلَ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَرَّرْتَهُ لَنَكَحَ‏؟‏ فَاعْلَمْ أَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يَحْيَى بِأَنَّهُ حَصُورٌ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ هَيُوبًا، أَوْ لَا ذَكَرَ لَهُ، بَلْ قَدْ أَنْكَرَ هَذَا حُذَّاقُ الْمُفَسِّرِينَ، وَنُقَّادُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالُوا‏:‏ هَذِهِ نَقِيصَةٌ، وَعَيْبٌ، وَلَا تَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنَ الذُّنُوبِ، أَيْ لَا يَأْتِيهَا، كَأَنَّهُ حُصِرَ عَنْهَا، وَقِيلَ‏:‏ مَانِعًا نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَقِيلَ‏:‏ لَيْسَتْ لَهُ شُهْرَةٌ فِي النِّسَاءِ‏.‏ فَقَدْ بَانَ ذَلِكَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى النِّكَاحِ نَقْصُ، وَإِنَّمَا الْفَضْلُ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةٌ، ثُمَّ قَمْعُهَا، إِمَّا بِمُجَاهَدَةٍ، كَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ بِكِفَايَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضْلَةٌ زَائِدَةٌ لِكَوْنِهَا شَاغِلَةً فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ حَاطَّةٌ إِلَى الدُّنْيَا‏.‏ ثُمَّ هِيَ فِي حَقِّ مَنْ أُقْدِرَ عَلَيْهَا، وَمَلَكَهَا، وَقَامَ بِالْوَاجِبِ فِيهَا، وَلَمْ تَشْغَلْهُ عَنْ رَبِّهِ دَرَجَةً عَلْيَاءَ، وَهِيَ دَرَجَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَمْ تَشْغَلْهُ كَثْرَتُهُنَّ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، بَلْ زَادَهُ ذَلِكَ عِبَادَةً لِتَحْصِينِهِنَّ، وَقِيَامِهِ بِحُقُوقِهِنَّ، وَاكْتِسَابِهِ لَهُنَّ، وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُنَّ، بَلْ صَرَّحَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حُظُوظِ دُنْيَاهُ هُوَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُظُوظِ دُنْيَا غَيْرِهِ، فَقَالَ‏:‏ «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ»‏.‏ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُبَّهُ لِمَا ذَكَرَ مِنَ النِّسَاءِ، وَالطِّيبِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أُمُورِ دُنْيَا غَيْرِهِ، وَاسْتِعْمَالِهِ لِذَلِكَ لَيْسَ لِدُنْيَاهُ، بَلْ لِآخِرَتِهِ، لِلْفَوَائِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي التَّزْوِيجِ، وَلِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ فِي الطِّيبِ، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا مِمَّا يَحُضُّ عَلَى الْجِمَاعِ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ، وَيُحَرِّكُ أَسْبَابَهُ، وَكَانَ حُبُّهُ لِهَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، وَقِمْعِ شَهْوَتِهِ، وَكَانَ حُبُّهُ الْحَقِيقِيُّ الْمُخْتَصُّ بِذَاتِهِ فِي مُشَاهَدَتِهِ جَبَرُوتَ مَوْلَاهُ، وَمُنَاجَاتِهِ، وَلِذَلِكَ مَيَّزَ بَيْنَ الْحُبَّيْنِ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، فَقَالَ‏:‏ «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» فَقَدْ سَاوَى يَحْيَى، وَعِيسَى فِي كِفَايَةِ فِتْنَتِهِنَّ، وَزَادَ فَضِيلَةً بِالْقِيَامِ بِهِنَّ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُقْدِرَ عَلَى الْقُوَّةِ فِي هَذَا وَأُعْطِيَ الْكَثِيرَ مِنْهُ، وَلِهَذَا أُبِيحُ لَهُ مِنْ عَدَدِ الْحَرَائِرِ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِ‏.‏

وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ‏.‏

قَالَ أَنَسٌ‏:‏ وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا‏.‏ خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، وَعَنْ طَاوُسٍ‏:‏ أُعْطِيَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فِي الْجِمَاعِ، وَمِثْلُهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، وَقَالَتْ سَلْمَى مَوْلَاتُهُ‏:‏ طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً عَلَى نِسَائِهِ التِّسْعِ، وَتَطَهَّرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْأُخْرَى، وَقَالَ‏:‏ «هَذَا أَطْيَبُ، وَأَطْهَرُ»‏.‏

وَقَدْ قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏[‏لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ، وَتِسْعِينَ‏]‏، وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ‏.‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ كَانَ فِي ظَهْرِ سُلَيْمَانَ مَاءُ مِائَةِ رَجُلٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَكَانَتْ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ، وَثَلَاثُمِائَةِ سَرِيَّةٍ‏.‏ وَحَكَى النَّقَّاشُ، وَغَيْرُهُ سَبْعُمِائَةِ امْرَأَةٍ، وَثَلَاثُمِائَةِ سَرِيَّةٍ، وَقَدْ كَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى زُهْدِهِ، وَأَكْلِهِ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ تِسْعٌ، وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، وَتَمَّتْ بِزَوْجِ أُورِيَّاءَ مِائَةً، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِأَرْبَعٍ‏:‏ بِالسَّخَاءِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَكَثْرَةِ الْجِمَاعِ، وَقُوَّةِ الْبَطْشِ»‏.‏ وَأَمَّا الْجَاهُ فَمَحْمُودٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ عَادَةً‏.‏

وَبِقَدْرِ جَاهِهِ عِظَمُهُ فِي الْقُلُوبِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 45‏]‏، لَكِنَّ آفَاتِهِ كَثِيرَةٌ، فَهُوَ مُضِرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ لِعُقْبَى الْآخِرَةِ، فَلِذَلِكَ ذَمَّهُ مَنْ ذَمَّهُ، وَمَدَحَ ضِدَّهُ‏.‏ وَوَرَدَ فِي الشَّرْعِ مَدْحُ الْخُمُولِ، وَذَمُّ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رُزِقَ مِنَ الْحِشْمَةِ، وَالْمَكَانَةِ فِي الْقُلُوبِ، وَالْعَظْمَةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَعْدَهَا، وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُ، وَيُؤْذُونَ أَصْحَابَهُ، وَيَقْصِدُونَ أَذَاهُ فِي نَفْسِهِ خِفْيَةً حَتَّى إِذَا وَاجَهَهُمْ أَعَظَمُوا أَمْرَهُ، وَقَضَوْا حَاجَتَهُ، وَأَخْبَارُهُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ سَيَأْتِي بَعْضُهَا، وَقَدْ كَانَ يَبْهَتُ وَيَفْرَقُ لِرُؤْيَتِهِ مَنْ لَمْ يَرَهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ قَيْلَةَ أَنَّهَا لَمَّا رَأَتْهُ أَرْعَدَتْ مِنَ الْفَرَقِ، فَقَالَ‏:‏ «يَا مِسْكِينَةُ، عَلَيْكِ السَّكِينَةُ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَرْعَدَ، فَقَالَ‏:‏ «هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ‏.‏»‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

فَأَمَّا عِظَمُ قَدْرِهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَشَرِيفُ مَنْزِلَتِهِ بِالرِّسَالَةِ، وَإِنَافَةُ رُتْبَتِهِ بِالِاصْطِفَاءِ، وَالْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا فَأَمْرٌ هُوَ مَبْلَغُ النِّهَايَةِ، ثُمَّ هُوَ فِي الْآخِرَةِ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَعَلَى مَعْنَى هَذَا الْفَصْلِ نَظَمْنَا هَذَا الْقِسْمَ بِأَسْرِهِ‏.‏

الفصل التَّاسِعُ‏:‏ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَالْمَتَاعِ

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ‏:‏ فَهُوَ مَا تَخْتَلِفُ الْحَالَاتُ فِي التَّمَدُّحِ بِهِ، وَالتَّفَاخُرِ بِسَبَبِهِ، وَالتَّفْضِيلِ لِأَجْلِهِ، كَكَثْرَةِ الْمَالِ فَصَاحِبُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ مُعَظَّمٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ، لِاعْتِقَادِهَا تَوَصُّلَهُ بِهِ إِلَى حَاجَاتِهِ، وَتَمَكُّنِ أَغْرَاضِهِ بِسَبَبِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فَضِيلَةٌ فِي نَفْسِهِ، فَمَتَى كَانَ الْمَالُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَصَاحِبُهُ مُنْفِقًا لَهُ فِي مُهِمَّاتِ مَنِ اعْتَرَاهُ، وَأَمَّلَهُ، وَتَصْرِيفِهِ فِي مَوَاضِعِهِ مُشْتَرِيًا بِهِ الْمَعَالِيَ، وَالثَّنَاءَ الْحَسَنَ، وَالْمَنْزِلَةَ فِي الْقُلُوبِ كَانَ فَضِيلَةً فِي صَاحِبِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِذَا صَرَفَهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَأَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ اللَّهَ، وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، كَانَ فَضِيلَةً عِنْدَ الْكُلِّ بِكُلِّ حَالٍ، وَمَتَى كَانَ صَاحِبُهُ مُمْسِكًا لَهُ غَيْرَ مُوَجِّهِهِ وُجُوهَهُ، حَرِيصًا عَلَى جَمْعِهِ، عَادَ كُثْرُهُ كَالْعَدَمِ، وَكَانَ مَنْقَصَةً فِي صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَقِفْ بِهِ عَلَى جُدَدِ السَّلَامَةِ، بَلْ أَوْقَعَهُ فِي هُوَّةِ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ، وَمَذَمَّةِ النَّذَالَةِ، فَإِذَا التَّمَدُّحُ بِالْمَالِ، وَفَضِيلَتُهُ عِنْدَ مُفَضِّلِهِ لَيْسَتْ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّوَصُّلِ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَتَصْرِيفِهِ فِي مُتَصَرَّفَاتِهِ، فَجَامِعُهُ إِذَا لَمْ يَضَعْهُ مَوَاضِعَهُ، وَلَا وَجَّهَهُ وُجُوهَهُ غَيْرَ مَلِيءٍ بِالْحَقِيقَةِ، وَلَا غَنِيٍّ بِالْمَعْنَى، وَلَا مُمْتَدَحٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ، بَلْ هُوَ فَقِيرٌ أَبَدًا غَيْرَ وَاصِلٍ إِلَى غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ، إِذْ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَالِ الْمُوصِلِ لَهَا لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ خَازِنَ مَالِ غَيْرِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ، فَكَانَ لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمُنْفِقُ مَلِيءٌ، غَنِيٌّ بِتَحْصِيلِهِ فَوَائِدَ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ‏.‏ فَانْظُرْ سِيرَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخُلُقَهُ فِي الْمَالِ تَجِدْهُ قَدْ أُوتِيَ خَزَائِنَ الْأَرْضِ، وَمَفَاتِيحَ الْبِلَادِ، وَأُحِلَّتْ لَهُ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ، وَفُتِحَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِلَادُ الْحِجَازِ، وَالْيَمَنِ وَجَمِيعُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَمَا دَانَى ذَلِكَ مِنَ الشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، وَجُلِبَتْ إِلَيْهِ مِنْ أَخْمَاسِهَا، وَجِزْيَتِهَا، وَصَدَقَاتِهَا مَا لَا يُجْبَى لِلْمُلُوكِ إِلَّا بَعْضُهُ، وَهَادَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مُلُوكِ الْأَقَالِيمِ فَمَا اسْتَأْثَرَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا أَمْسَكَ مِنْهُ دِرْهَمًا، بَلْ صَرَفَهُ مَصَارِفَهُ، وَأَغْنَى بِهِ غَيْرَهُ، وَقَوَّى بِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ‏:‏ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا يَبِيتُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلَّا دِينَارًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ‏.‏ وَأَتَتْهُ دَنَانِيرُ مَرَّةً فَقَسَّمَهَا، وَبَقِيَتْ مِنْهُ سِتَّةٌ، فَدَفَعَهَا لِبَعْضِ نِسَائِهِ، فَلَمْ يَأْخُذْهُ نَوْمٌ حَتَّى قَامَ، وَقَسَّمَهَا، وَقَالَ‏:‏ الْآنَ اسْتَرَحْتُ‏.‏ وَمَاتَ، وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ فِي نَفَقَةِ عِيَالِهِ‏.‏ وَاقْتَصَرَ مِنْ نَفَقَتِهِ، وَمَلْبَسِهِ، وَمَسْكَنِهِ عَلَى مَا تَدْعُو ضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ‏.‏ وَزَهِدَ فِيمَا سِوَاهُ، فَكَانَ يَلْبَسُ مَا وَجَدَهُ، فَيَلْبَسُ فِي الْغَالِبِ الشَّمْلَةَ، وَالْكِسَاءَ الْخَشِنَ، وَالْبُرْدَ الْغَلِيظَ، وَيَقْسِمُ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ أَقْبِيَةَ الدِّيبَاجِ الْمُخَوَّصَةِ بِالذَّهَبِ، وَيَرْفَعُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ، إِذِ الْمُبَاهَاةُ فِي الْمَلَابِسِ، وَالتَّزَيُّنُ بِهَا لَيْسَتْ مِنْ خِصَالِ الشَّرَفِ، وَالْجَلَالَةِ، وَهِيَ مِنْ سِمَاتِ النِّسَاءِ‏.‏ وَالْمَحْمُودُ مِنْهَا نَقَاوَةُ الثَّوْبِ، وَالتَّوَسُّطُ فِي جِنْسِهِ، وَكَوْنُهُ لُبْسَ مِثْلِهِ، غَيْرَ مُسْقِطٍ لِمُرُوءَةِ جِنْسِهِ مِمَّا لَا يُؤَدِّي إِلَى الشُّهْرَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ‏.‏

وَقَدْ ذَمَّ الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَغَايَةُ الْفَخْرِ فِيهِ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ النَّاسِ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى الْفَخْرِ بِكَثْرَةِ الْمَوْجُودِ، وَوُفُورِ الْحَالِ‏.‏ وَكَذَلِكَ التَّبَاهِي بِجَوْدَةِ الْمَسْكَنِ، وَسِعَةِ الْمَنْزِلِ، وَتَكْثِيرِ آلَاتِهِ، وَخَدَمِهِ، وَمَرْكُوبَاتِهِ‏.‏ وَمَنْ مَلَكَ الْأَرْضَ، وَجُبِيَ إِلَيْهِ مَا فِيهَا، فَتَرَكَ ذَلِكَ زُهْدًا، وَتَنَزُّهًا، فَهُوَ حَائِزٌ لِفَضِيلَةِ الْمَالِ، وَمَالِكٌ لِلْفَخْرِ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةً زَائِدٌ عَلَيْهَا فِي الْفَخْرِ، وَمُغْرِقٌ فِي الْمَدْحِ بِإِضْرَابِهِ عَنْهَا، وَزُهْدِهِ فِي فَانِيهَا، وَبَذْلِهَا فِي مَظَانِّهَا‏.‏

الفصل الْعَاشِرُ‏:‏ الْأَخْلَاقُ الْحَمِيدَةُ

وَأَمَّا الْخِصَالُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالْآدَابِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي اتَّفَقَ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَفْضِيلِ صَاحِبِهَا، وَتَعْظِيمِ الْمُتَّصِفِ بِالْخُلُقِ الْوَاحِدِ مِنْهَا، فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهُ، وَأَثْنَى الشَّرْعُ عَلَى جَمِيعِهَا، وَأَمَرَ بِهَا، وَوَعَدَ السَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ لِلْمُتَخَلِّقِ بِهَا، وَوَصَفَ بَعْضَهَا بِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَهُوَ الِاعْتِدَالُ فِي قُوَى النَّفْسِ، وَأَوْصَافِهَا، وَالتَّوَسُّطُ فِيهَا دُونَ الْمَيْلِ إِلَى مُنْحَرِفِ أَطْرَافِهَا، فَجَمِيعُهَا قَدْ كَانَتْ خُلُقَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِانْتِهَاءِ فِي كَمَالِهَا، وَالِاعْتِدَالِ إِلَى غَايَتِهَا، حَتَّى أَثْنَى اللَّهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الْقَلَمِ‏:‏ 5‏]‏‏.‏ قَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-‏:‏ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى بِرِضَاهُ، وَيَسْخَطُ بِسُخْطِهِ‏.‏ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»‏.‏

‏.‏ قَالَ أَنَسٌ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنُ النَّاسِ خُلُقًا‏.‏ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِثْلُهُ‏.‏ وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مَجْبُولًا عَلَيْهَا فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ وَأَوَّلِ فِطْرَتِهِ، لَمْ تَحْصُلْ لَهُ بِاكْتِسَابٍ، وَلَا رِيَاضَةٍ إِلَّا بِجُودٍ إِلَهِيٍّ، وَخُصُوصِيَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ‏.‏ وَهَكَذَا لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَهُمْ مُنْذُ صِبَاهُمْ إِلَى مَبْعَثِهِمْ حَقَّقَ ذَلِكَ، كَمَا عُرِفَ مِنْ حَالِ عِيسَى، وَمُوسَى، وَيَحْيَى، وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-‏.‏ بَلْ غُرِزَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ فِي الْجِبِلَّةِ، وَأُودِعُوا الْعِلْمَ، وَالْحِكْمَةَ فِي الْفِطْرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا‏}‏ ‏[‏مَرْيَمَ‏:‏ 12‏]‏‏.‏

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ‏:‏ أَعْطَى اللَّهُ يَحْيَى الْعِلْمَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ صِبَاهُ‏.‏ وَقَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ كَانَ يَحْيَى ابْنَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، فَقَالَ لَهُ الصِّبْيَانُ‏:‏ لِمَ لَا تَلْعَبُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَلِلَّعِبِ خُلِقْتُ‏؟‏‏!‏‏.‏ صَدَّقَ يَحْيَى بِعِيسَى، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَشَهِدَ لَهُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَرُوحُهُ، وَقِيلَ‏:‏ صَدَّقَهُ، وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ‏:‏ إِنِّي أَجِدُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ، تَحِيَّةً لَهُ‏.‏ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَلَامِ عِيسَى لِأُمِّهِ عِنْدَ وِلَادَتِهَا إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ لَهَا‏:‏ ‏{‏أَلَّا تَحْزَنِي‏}‏ ‏[‏مَرْيَمَ‏:‏ 24‏]‏ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مِنْ تَحْتِهَا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْمُنَادِيَ عِيسَى‏.‏ وَنَصَّ عَلَى كَلَامِهِ فِي مَهْدِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا‏}‏ ‏[‏مَرْيَمَ‏:‏ 30‏]‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ صَبِيٌّ يَلْعَبُ فِي قَضِيَّةِ الْمَرْجُومَةِ، وَفِي قِصَّةِ الصَّبِيِّ مَا اقْتَدَى بِهِ دَاوُدُ أَبُوهُ‏.‏ وَقَالَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ عُمْرَهُ كَانَ حِينَ أُوتِيَ الْمُلْكَ اثْنَا عَشَرَ عَامًا‏.‏ وَكَذَلِكَ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ، وَأَخْذِهِ بِلِحْيَتِهِ، وَهُوَ طِفْلٌ‏.‏

وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 68‏]‏، أَيْ هَدَيْنَاهُ صَغِيرًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ‏:‏ اصْطَفَاهُ قَبْلَ إِبْدَاءِ خَلْقِهِ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكًا يَأْمُرُهُ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَعْرِفَهُ بِقَلْبِهِ، وَيَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَالَ‏:‏ قَدْ فَعَلْتُ، وَلَمْ يَقُلْ أَفْعَلُ، فَذَلِكَ رُشْدُهُ، وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ إِلْقَاءَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النَّارِ، وَمِحْنَتَهُ كَانَتْ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِنَّ ابْتِلَاءَ إِسْحَاقَ بِالذَّبْحِ كَانَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَإِنَّ اسْتِدْلَالَ إِبْرَاهِيمَ بِالْكَوْكَبِ، وَالْقَمَرِ، وَالشَّمْسِ كَانَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقِيلَ‏:‏ أُوحِيَ إِلَى يُوسُفَ وَهُوَ صَبِيٌّ عِنْدَمَا هَمَّ إِخْوَتُهُ بِإِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 15‏]‏ الْآيَةَ‏.‏ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ‏.‏

وَقَدْ حَكَى أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ أَخْبَرَتْ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ حِينَ وُلِدَ بَاسِطًا يَدَيْهِ إِلَى الْأَرْضِ، رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ‏.‏

وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَمَّا نَشَأْتُ بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَوْثَانُ‏.‏ وَبُغِّضَ إِلَيَّ الشِّعْرُ‏.‏ وَلَمْ أَهُمَّ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ، فَعَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ لَمْ أَعُدْ»‏.‏ ثُمَّ يَتَمَكَّنُ الْأَمْرُ لَهُمْ، وَتَتَرَادَفُ نَفَحَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَتُشْرِقُ أَنْوَارُ الْمَعَارِفِ فِي قُلُوبِهِمْ، حَتَّى يَصِلُوا الْغَايَةَ، وَيَبْلُغُوا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْخِصَالِ الشَّرِيفَةِ النِّهَايَةَ دُونَ مُمَارَسَةٍ، وَلَا رِيَاضَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 22، الْقَصَصِ‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وَقَدْ نَجِدُ غَيْرَهُمْ يُطْبَعُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ دُونَ جَمِيعِهَا، وَيُولَدُ عَلَيْهَا، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ تَمَامِهَا عِنَايَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا نُشَاهِدُ مِنْ خَلْقِهِ بَعْضَ الصِّبْيَانِ عَلَى حُسْنِ السَّمْتِ، أَوِ الشَّهَامَةِ، أَوْ صِدْقِ اللِّسَانِ أَوِ السَّمَاحَةِ، وَكَمَا نَجِدُ بَعْضَهُمْ عَلَى ضِدِّهَا، فَبِالِاكْتِسَابِ يَكْمُلُ نَاقِصُهَا، وَبِالرِّيَاضَةِ، وَالْمُجَاهَدَةِ يُسْتَجْلَبُ مَعْدُومُهَا، وَيَعْتَدِلُ مُنْحَرِفُهَا، وَبِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهَا‏.‏ وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ‏;‏ وَلِهَذَا مَا قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا‏:‏ هَلْ هَذَا الْخُلُقُ جِبِلَّةٌ أَوْ مُكْتَسَبَةٌ‏؟‏‏.‏ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ جِبِلَّةٌ، وَغَرِيزَةٌ فِي الْعَبْدِ، وَحَكَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ هُوَ‏.‏ وَالصَّوَابُ مَا أَصَّلْنَاهُ‏.‏

وَقَدْ رَوَى سَعْدٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ «كُلُّ الْخِلَالِ يُطْبَعُ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُ إِلَّا الْخِيَانَةَ، وَالْكَذِبَ»‏.‏ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي حَدِيثِهِ‏:‏ وَالْجُرْأَةُ، وَالْجُبْنُ غَرَائِزُ يَضَعُهُمَا اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ‏.‏

وَهَذِهِ الْأَخْلَاقُ الْمَحْمُودَةُ، وَالْخِصَالُ الْجَمِيلَةُ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّنَا نَذْكُرُ أُصُولَهَا، وَنُشِيرُ إِلَى جَمِيعِهَا، وَنُحَقِّقُ وَصْفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

الفصل الْحَادِي عَشَرَ‏:‏ عَقْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَمَّا أَصْلُ فُرُوعِهَا، وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا، وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ الَّذِي مِنْهُ يَنْبَعِثُ الْعِلْمُ، وَالْمَعْرِفَةُ، وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا ثُقُوبُ الرَّأْيِ، وَجَوْدَةُ الْفِطْنَةِ، وَالْإِصَابَةُ، وَصِدْقُ الظَّنِّ، وَالنَّظَرُ لِلْعَوَاقِبِ، وَمَصَالِحُ النَّفْسِ، وَمُجَاهَدَةُ الشَّهْوَةِ، وَحُسْنُ السِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَاقْتِنَاءُ الْفَضَائِلِ، وَتَجَنُّبُ الرَّذَائِلِ‏.‏ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى مَكَانِهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُلُوغِهِ مِنْهُ، وَمِنَ الْعِلْمِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى الَّتِي لَمْ يَبْلُغْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ، وَإِذْ جَلَالَةُ مَحَلِّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَمِمَّا تَفَرَّعَ مِنْهُ مُتَحَقِّقَةٌ عِنْدَ مَنْ تَتَبَّعَ مَجَارِيَ أَحْوَالِهِ، وَاطِّرَادَ سِيَرِهِ، وَطَالَعَ جَوَامِعَ كَلَامِهِ‏.‏ وَحُسْنَ شَمَائِلِهِ، وَبَدَائِعَ سِيَرِهِ، وَحُكْمَ حَدِيثِهِ، وَعِلْمِهِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَحِكَمِ الْحُكَمَاءِ، وَسِيَرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَأَيَّامِهَا، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَسِيَاسَاتِ الْأَنَامِ، وَتَقْرِيرِ الشَّرَائِعِ، وَتَأْصِيلِ الْآدَابِ النَّفْسِيَّةِ، وَالشِّيَمِ الْحَمِيدَةِ إِلَى فُنُونِ الْعُلُومِ الَّتِي اتَّخَذَ أَهْلُهَا كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا قَدْوَةً، وَإِشَارَاتِهِ حُجَّةً، كَالْعِبَارَةِ، وَالطِّبِّ، وَالْحِسَابِ، وَالْفَرَائِضِ، وَالنَّسَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنُبَيِّنُهُ فِي مُعْجِزَاتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، دُونَ تَعْلِيمٍ، وَلَا مُدَارَسَةٍ، وَلَا مُطَالَعَةِ كُتُبِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَلَا الْجُلُوسِ إِلَى عُلَمَائِهِمْ، بَلْ نَبِيٌّ أُمِّيٌّ لَمْ يُعْرَفْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ، وَأَبَانَ أَمْرَهُ، وَعَلَّمَهُ، وَأَقْرَأَهُ، يَعْلَمُ ذَلِكَ بِالْمُطَالَعَةِ، وَالْبَحْثِ عَنْ حَالِهِ ضَرُورَةً، وَبِالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى نُبُوَّتِهِ نَظَرًا، فَلَا نَطُولُ بِسَرْدِ الْأَقَاصِيصِ، وَآحَادِ الْقَضَايَا، إِذْ مَجْمُوعُهَا مَا لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ حِفْظٌ جَامِعٌ، وَبِحَسَبِ عَقْلِهِ كَانَتْ مَعَارِفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَائِرِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ مَا يَكُونُ وَمَا كَانَ ‏,‏ وَعَجَائِبِ قُدْرَتِهِ، وَعَظِيمِ مَلَكُوتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاءِ‏:‏ 113‏]‏ حَارَتِ الْعُقُولُ فِي تَقْدِيرِ فَضْلِهِ عَلَيْهِ، وَخَرِسَتِ الْأَلْسُنُ دُونَ وَصْفٍ يُحِيطُ بِذَلِكَ أَوْ يَنْتَهِي إِلَيْهِ‏.‏

الفصل الثَّانِي عَشَرَ‏:‏ الْحِلْمُ، وَالْعَفْوُ

وَأَمَّا الْحِلْمُ، وَالِاحْتِمَالُ، وَالْعَفْوُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يَكْرَهُ، وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَلْقَابِ فَرْقٌ، فَإِنَّ الْحِلْمَ حَالَةُ تَوَقُّرٍ، وَثَبَاتٍ عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّكَاتِ‏.‏ وَالِاحْتِمَالَ‏:‏ حَبْسُ النَّفْسِ عِنْدَ الْآلَامِ، وَالْمُؤْذِيَاتِ‏.‏ وَمِثْلُهَا الصَّبْرُ، وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ‏.‏

وَأَمَّا الْعَفْوُ فَهُوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ‏.‏ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ‏}‏‏.‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 199‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَقَالَ لَهُ‏:‏ حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ‏.‏

ثُمَّ ذَهَبَ فَأَتَاهُ، فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ‏.‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ‏.‏

وَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏‏.‏ ‏[‏لُقْمَانَ‏:‏ 17‏]‏ الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 35‏]‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا‏}‏ ‏[‏النُّورِ‏:‏ 35‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 3 4‏]‏‏.‏

وَلَا خَفَاءَ بِمَا يُؤْثَرُ مِنْ حِلْمِهِ، وَاحْتِمَالِهِ، وَأَنَّ كُلَّ حَلِيمٍ قَدْ عُرِفَتْ مِنْهُ زَلَّةٌ، وَحُفِظَتْ عَنْهُ هَفْوَةٌ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزِيدُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَذَى إِلَّا صَبْرًا، وَعَلَى إِسْرَافِ الْجَاهِلِ إِلَّا حِلْمًا‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ وَاقِدٍ الْقَاضِي، وَغَيْرُهُ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ‏:‏ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ شَقًّا شَدِيدًا، وَقَالُوا‏:‏ لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ‏!‏ فَقَالَ‏:‏ «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِيًا، وَرَحْمَةً‏.‏ اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ‏:‏ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ‏!‏ لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا‏}‏ ‏[‏نُوحٍ‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وَلَوْ دَعَوْتَ عَلَيْنَا مِثْلَهَا لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا، فَلَقَدْ وُطِئَ ظَهْرُكَ، وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُكَ، فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إِلَّا خَيْرًا، فَقُلْتَ‏:‏ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ-‏:‏ انْظُرْ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِمَاعِ الْفَضْلِ، وَدَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَكَرَمِ النَّفْسِ، وَغَايَةِ الصَّبْرِ، وَالْحِلْمِ؛ إِذْ لَمْ يَقْتَصِرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُمْ حَتَّى عَفَا عَنْهُمْ، ثُمَّ أَشْفَقَ عَلَيْهِمْ، وَرَحِمَهُمْ، وَدَعَا، وَشَفَعَ لَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ اغْفِرْ أَوِ اهْدِ، ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الشَّفَقَةِ، وَالرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ‏:‏ لِقَوْمِي، ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِجَهْلِهِمْ، فَقَالَ‏:‏ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏.‏

وَلَمَّا قَالَ لَهُ الرَّجُلُ‏:‏ اعْدِلْ، فَإِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ لَمْ يَزِدْهُ فِي جَوَابِهِ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا جَهِلَهُ‏.‏ وَوَعَظَ نَفْسَهُ، وَذَكَّرَهَا بِمَا قَالَ لَهُ، فَقَالَ‏:‏ «وَيْحَكَ‏!‏ فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ‏!‏ خِبْتُ، وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ‏!‏» وَنَهَى مَنْ أَرَادَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَتْلَهُ‏.‏ وَلَمَّا تَصَدَّى لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ لِيَفْتِكَ بِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْتَبِذٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَحْدَهُ قَائِلًا، وَالنَّاسُ قَائِلُونَ، فِي غَزَاةٍ، فَلَمْ يَنْتَبِهْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ، وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ «اللَّهُ» فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ‏:‏ «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي‏؟‏» قَالَ‏:‏ كُنْ خَيْرَ آخِذٍ، فَتَرَكَهُ، وَعَفَا عَنْهُ‏.‏ فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ‏:‏ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ‏.‏

وَمِنْ عَظِيمِ خَبَرِهِ فِي الْعَفْوِ عَفْوُهُ عَنِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ فِي الشَّاةِ بَعْدَ اعْتِرَافِهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الرِّوَايَةِ‏.‏

وَأَنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ إِذْ سَحَرَهُ، وَقَدْ أُعْلِمَ بِهِ، وَأُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْحِ أَمْرِهِ، وَلَا عَتَبَ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ مُعَاقَبَتِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ لَمْ يُؤَاخِذْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، وَأَشْبَاهَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِعَظِيمِ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي جِهَتِهِ قَوْلًا، وَفِعْلًا، بَلْ قَالَ لِمَنْ أَشَارَ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ‏:‏ «لِئَلَّا يُتَحَدَّثُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»‏.‏

وَعَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَجَبَذَهُ أَعْرَابِيٌّ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَثَّرَتْ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ فِي صَفْحَةِ عَاتِقِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرِيَّ هَذَيْنِ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِكَ، وَمَالِ أَبِيكَ‏.‏ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ «الْمَالُ مَالُ اللَّهِ، وَأَنَا عَبْدُهُ»‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ «وَيُقَادُ مِنْكَ يَا أَعْرَابِيُّ مَا فَعَلْتَ بِي» قَالَ‏:‏ لَا‏.‏ قَالَ‏:‏ «لِمَ‏؟‏» قَالَ‏:‏ لِأَنَّكَ لَا تُكَافِئُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ‏.‏ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ لَهُ عَلَى بَعِيرِهِ شَعِيرٌ، وَعَلَى الْآخَرِ تَمْرٌ‏.‏

قَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-‏:‏ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلَمَةٍ ظُلِمَهَا قَطُّ مَا لَمْ تَكُنْ حُرْمَةً مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ‏.‏ وَمَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏ وَمَا ضَرَبَ خَادِمًا قَطُّ، وَلَا امْرَأَةً‏.‏ وَجِيءَ إِلَيْهِ بِرَجُلٍ، فَقِيلَ‏:‏ هَذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَكَ‏.‏ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَنْ تُرَاعَ، لَنْ تُرَاعَ، وَلَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمْ تُسَلَّطْ عَلَيَّ»‏.‏

وَجَاءَهُ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَجَبَذَ ثَوْبَهُ عَنْ مَنْكِبِهِ، وَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ، وَأَغْلَظَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ إِنَّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمَطْلَبِ، مُطْلٌ، فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ، وَشَدَّدَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَسِمُ‏.‏

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أَنَا وَهُوَ كُنَّا إِلَى غَيْرِ هَذَا أَحْوَجَ مِنْكَ يَا عُمَرُ، تَأْمُرُنِي بِحُسْنِ الْقَضَاءِ، وَتَأْمُرُهُ بِحُسْنِ التَّقَاضِي»‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ لَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَجْلِهِ ثَلَاثٌ، وَأَمَرَ عُمَرَ يَقْضِيهِ مَالَهُ، وَيَزِيدَهُ عِشْرِينَ صَاعًا لِمَا رَوَّعَهُ، فَكَانَ سَبَبَ إِسْلَامِهِ‏.‏

ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ مَا بَقِيَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي مُحَمَّدٍ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا‏:‏ يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلُهُ، وَلَا تَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ إِلَّا حِلْمًا‏.‏ فَاخْتَبَرْتُهُ بِهَذَا، فَوَجَدْتُهُ كَمَا وُصِفَ‏.‏

وَالْحَدِيثُ عَنْ حِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَبْرِهِ، وَعَفْوِهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ عَلَيْهِ، وَحَسْبُكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا فِي الصَّحِيحِ، وَالْمُصَنَّفَاتِ الثَّابِتَةِ إِلَى مَا بَلَغَ مُتَوَاتِرًا مَبْلَغَ الْيَقِينِ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مُقَاسَاةِ قُرَيْشٍ، وَأَذَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُصَابَرَةِ الشَّدَائِدِ الصَّعْبَةِ مَعَهُمْ إِلَى أَنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَحَكَّمَهُ فِيهِمْ، وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي اسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِمْ، وَإِبَادَةِ خَضْرَائِهِمْ، فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ عَفَا، وَصَفَحَ، وَقَالَ‏:‏ «مَا تَقُولُونَ إِنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ‏؟‏» قَالُوا‏:‏ خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ‏:‏ «أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ‏:‏ ‏{‏لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 92‏]‏ الْآيَةَ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»‏.‏ وَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ هَبَطَ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنَ التَّنْعِيمِ صَلَاةَ الصُّبْحِ لِيَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُخِذُوا، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الْفَتْحِ‏:‏ 24‏]‏ الْآيَةَ‏.‏ وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ، وَقَدْ سِيقَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ جَلَبَ إِلَيْهِ الْأَحْزَابَ، وَقَتَلَ عَمَّهُ، وَأَصْحَابَهُ، وَمَثَّلَ بِهِمْ، فَعَفَا عَنْهُ، وَلَاطَفَهُ فِي الْقَوْلِ‏:‏ «وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ‏!‏ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏؟‏» فَقَالَ‏:‏ بِأَبِي أَنْتَ، وَأُمِّي‏!‏ مَا أَحْلَمَكَ، وَأَوْصَلَكَ، وَأَكْرَمَكَ‏!‏‏.‏

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْعَدَ النَّاسِ غَضَبًا وَأَسْرَعَهُمْ رِضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

الفصل الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ الْجُودُ، وَالْكَرَمُ

وَأَمَّا الْجُودُ، وَالْكَرَمُ، وَالسَّخَاءُ، وَالسَّمَاحَةُ فَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ‏.‏ وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهَا بِفُرُوقٍ، فَجَعَلُوا الْكَرَمَ الْإِنْفَاقَ بِطِيبِ النَّفْسِ فِيمَا يَعْظُمُ خَطَرُهُ، وَنَفْعُهُ، وَسَمَّوْهُ أَيْضًا جُرْأَةً، وَهُوَ ضِدُّ النَّذَالَةِ‏.‏

وَالسَّمَاحَةُ‏:‏ التَّجَافِي عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمَرْءُ عِنْدَ غَيْرِهِ بِطِيبِ نَفْسٍ، وَهُوَ ضِدُّ الشَّكَاسَةِ‏.‏

وَالسَّخَاءُ‏:‏ سُهُولَةُ الْإِنْفَاقِ، وَتَجَنُّبُ اكْتِسَابِ مَا لَا يُحْمَدُ، وَهُوَ الْجُودُ، وَهُوَ ضِدُّ التَّقْتِيرِ‏.‏ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوَازَى فِي هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَلَا يُبَارَى، بِهَذَا وَصَفَهُ كُلُّ مَنْ عَرَفَهُ‏.‏

‏[‏حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ-، حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ الْكُشْمِيهَنِيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْبَلْخِيُّ، قَالُوا‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ‏]‏، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ‏:‏ مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ‏:‏ لَا‏.‏ وَعَنْ أَنَسٍ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مِثْلُهُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَأَجْوَدَ مَا كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ‏.‏

وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَقَالَ‏:‏ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى فَاقَةً‏.‏ وَأَعْطَى غَيْرَ وَاحِدٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى صَفْوَانَ مِائَةً ثُمَّ مِائَةً ثُمَّ مِائَةً، وَهَذِهِ كَانَتْ خُلُقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ‏.‏

وَقَدْ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ ‏:‏ إِنَّكَ تَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ‏.‏

وَرَدَّ عَلَى هَوَازِنَ سَبَايَاهَا، وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافٍ‏.‏ وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ مِنَ الذَّهَبِ مَا لَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ‏.‏

وَحُمِلَ إِلَيْهِ تِسْعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَوُضِعَتْ عَلَى حَصِيرٍ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا يُقَسِّمُهَا، فَمَا رَدَّ سَائِلًا حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا‏.‏

وَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ‏:‏ «مَا عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ، فَإِذَا جَاءَنَا شَيْءٌ قَضَيْنَاهُ‏.‏‏.‏»‏.‏ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ‏:‏ مَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ ‏,‏ فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ‏,‏ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفِقْ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا ‏,‏ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ‏:‏ «بِهَذَا أُمِرْتُ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ ‏.‏

وَذُكِرَ عَنْ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ ، قَالَ‏:‏ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ- يُرِيدُ طَبَقًا – وَأُجْرِ زُغْبٍ- يُرِيدُ قِثَّاءً- فَأَعْطَانِي مِلْءَ كَفِّهِ حُلِيًّا، وَذَهَبًا‏.‏

وَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ‏.‏

وَالْخَبَرُ بِجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ، فَاسْتَلَفَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفَ وَسْقٍ، فَجَاءَ الرَّجُلُ يَتَقَاضَاهُ، فَأَعْطَاهُ وَسْقًا، وَقَالَ‏:‏ «نِصْفُهُ قَضَاءٌ، وَنِصْفُهُ نَائِلٌ»‏.‏

الفصل الرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ الشَّجَاعَةُ، وَالنَّجْدَةُ

وَأَمَّا الشَّجَاعَةُ، وَالنَّجْدَةُ فَالشَّجَاعَةُ فَضِيلَةُ قُوَّةِ الْغَضَبِ، وَانْقِيَادِهَا لِلْعَقْلِ، وَالنَّجْدَةُ‏:‏ ثِقَةُ النَّفْسِ عِنْدَ اسْتِرْسَالِهَا إِلَى الْمَوْتِ حَيْثُ يُحْمَدُ فِعْلُهَا دُونَ خَوْفٍ‏.‏

وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمَا بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا يُجْهَلُ، قَدْ حَضَرَ الْمَوَاقِفَ الصَّعْبَةَ، وَفَرَّ الْكُمَاةُ وَالْأَبْطَالُ عَنْهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهُوَ ثَابِتٌ لَا يَبْرَحُ، وَمُقْبِلٌ لَا يُدْبِرُ، وَلَا يَتَزَحْزَحُ، وَمَا شُجَاعٌ إِلَّا وَقَدْ أُحْصِيَتْ لَهُ فَرَّةٌ، وَحُفِظَتْ عَنْهُ جَوْلَةُ سِوَاهُ‏.‏

‏[‏حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ فِيمَا كَتَبَ لِي، حَدَّثَنَا الْقَاضِي سِرَاجٌ ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ‏:‏ سَمِعَ الْبَرَاءَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ‏:‏ أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ لَقَدْ رَأَيْتُهُ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبٌ» وَزَادَهُ غَيْرُهُ‏:‏ «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمَطْلَبِ»‏.‏ قِيلَ‏:‏ فَمَا رُئِيَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْهُ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ‏.‏ وَذَكَرَ مُسْلِمٌ عَنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ، وَالْكُفَّارُ، وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ نَحْوَ الْكُفَّارِ، وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِهَا أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَلَّا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِهِ، ثُمَّ نَادَى‏:‏ يَا لِلْمُسْلِمِينَ‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَضِبَ، وَلَا يَغْضَبُ إِلَّا لِلَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ مَا رَأَيْتُ أَشْجَعَ، وَلَا أَنْجَدَ، وَلَا أَجْوَدَ، وَلَا أَرْضَى، وَلَا أَفْضَلَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ إِنَّا كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ، وَيُرْوَى‏:‏ اشْتَدَّ الْبَأْسُ، وَاحْمَرَّتِ الْحَدَقُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ، فَمَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ بَدْرٍ، وَنَحْنُ نَلُوذُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ كَانَ الشُّجَاعُ هُوَ الَّذِي يَقْتَرِبُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَنَا الْعَدُوُّ، لِقُرْبِهِ مِنْهُ‏.‏ وَعَنْ أَنَسٍ‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، لَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً، فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا، قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَاسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، وَالسَّيْفُ فِي عُنُقِهِ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ «لَنْ تُرَاعُوا»‏.‏

وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ‏:‏ مَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِيبَةً إِلَّا كَانَ أَوَّلَ مَنْ يَضْرِبُ‏.‏ وَلَمَّا رَآهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ أَيْنَ مُحَمَّدٌ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا‏.‏ وَقَدْ كَانَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَدَى يَوْمَ بَدْرٍ‏:‏ عِنْدِي فَرَسٌ أَعْلِفُهَا كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا مِنْ ذُرَةٍ أَقْتُلُكَ عَلَيْهَا‏.‏ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»‏.‏

فَلَمَّا رَآهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَدَّ أُبَيٌّ عَلَى فَرَسِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاعْتَرَضَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «هَكَذَا، أَيْ خَلُّوا طَرِيقَهُ» وَتَنَاوَلَ الْحَرْبَةَ مِنَ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ، فَانْتَفَضَ بِهَا انْتِفَاضَةً تَطَايَرُوا عَنْهُ تَطَايُرَ الشُّعَرَاءِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ إِذَا انْتَفَضَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ مِنْهَا عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ كَسَرَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ يَقُولُ‏:‏ قَتَلَنِي مُحَمَّدٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ لَا بَأْسَ بِكَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ لَوْ كَانَ مَا بِي بِجَمِيعِ النَّاسِ لَقَتَلَهُمْ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ‏:‏ أَنَا أَقْتُلُكَ، وَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي‏.‏ فَمَاتَ بِسَرِفَ فِي قُفُولِهِمْ إِلَى مَكَّةَ‏.‏

الفصل الْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ الْحَيَاءُ، وَالْإِغْضَاءُ

وَأَمَّا الْحَيَاءُ، وَالْإِغْضَاءُ‏:‏ فَالْحَيَاءُ رِقَّةٌ تَعْتَرِي وَجْهَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ فِعْلِ مَا يَتَوَقَّعُ كَرَاهِيَتَهُ، أَوْ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ خَيْرًا مِنْ فِعْلِهِ‏.‏ وَالْإِغْضَاءُ‏:‏ التَّغَافُلُ عَمَّا يَكْرَهُ الْإِنْسَانُ بِطَبِيعَتِهِ‏.‏

وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً، وَأَكْثَرَهُمْ عَنِ الْعَوْرَاتِ إِغْضَاءً، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 53‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

‏[‏حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَتَّابٍ ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى أَنَسٍ، يُحَدِّثُ‏]‏ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا‏.‏ وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ‏.‏

وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَطِيفَ الْبَشَرَةِ، رَقِيقَ الظَّاهِرِ، لَا يُشَافِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُهُ حَيَاءً، وَكَرَمَ نَفْسٍ‏.‏

وَعَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ مَا يَكْرَهُهُ لَمْ يَقُلْ‏:‏ مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ كَذَا‏؟‏ وَلَكِنْ يَقُولُ‏:‏ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَصْنَعُونَ، أَوْ يَقُولُونَ كَذَا‏!‏ يَنْهَى عَنْهُ، وَلَا يُسَمِّي فَاعِلَهُ‏.‏

وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا، وَكَانَ لَا يُوَاجِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ‏:‏ لَوْ قُلْتُمْ لَهُ‏:‏ يَغْسِلُ هَذَا وَيُرْوَى‏:‏ يَنْزِعُهَا‏.‏

قَالَتْ عَائِشَةُ فِي الصَّحِيحِ ‏:‏ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا، وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا سَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ، السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو، وَيَصْفَحُ‏.‏ وَقَدْ حُكِيَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَنِ التَّوْرَاةِ، وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سَلَامٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَيَائِهِ لَا يُثَبِّتُ بَصَرَهُ فِي وَجْهِ أَحَدٍ‏.‏

وَأَنَّهُ كَانَ يُكَنِّي عَمَّا اضْطَرَّهُ الْكَلَامُ إِلَيْهِ مِمَّا يَكْرَهُ‏.‏ وَعَنْ عَائِشَةَ‏:‏ مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ‏.‏

الفصل السَّادِسَ عَشَرَ‏:‏ حُسْنُ عِشْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَأَمَّا حُسْنُ عِشْرَتِهِ، وَأَدَبُهُ، وَبَسْطُ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ فَبِحَيْثُ انْتَشَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي وَصْفِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَالسَّلَامُ-‏:‏ كَانَ أَوْسَعَ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً، وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً، وَأَكْرَمَهُمْ عِشْرَةً‏.‏

‏[‏حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُشَرَّفٍ الْأَنْمَاطِيُّ فِيمَا أَجَازَنِيهِ، وَقَرَأْتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْحَبَّالُ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ النَّحَّاسِ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مَرْوَانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا‏:‏ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ يَقُولُ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ‏]‏، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ قِصَّةً فِي آخِرِهَا‏:‏ فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَرَّبَ لَهُ سَعْدٌ حِمَارًا، وَطِأَ عَلَيْهِ بِقَطِيفَةٍ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ‏:‏ يَا قَيْسُ، اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ قَالَ قَيْسٌ‏:‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ارْكَبْ» فَأَبَيْتُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ «إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ» فَانْصَرَفْتُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى‏:‏ «ارْكَبْ أَمَامِي، فَصَاحِبُ الدَّابَّةِ أَوْلَى بِمُقَدِّمِهَا»‏.‏

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَلِّفُهُمْ، وَلَا يُنَفِّرُهُمْ، وَيُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ، وَيُوَلِّيهِ عَلَيْهِمْ، وَيُحَذِّرُ النَّاسَ، وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْوِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِشْرَهُ، وَلَا خُلُقَهُ، يَتَعَهَّدُ أَصْحَابَهُ، وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ نَصِيبَهُ، لَا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ‏.‏ مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَارَبَهُ لِحَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرِفَ عَنْهُ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا، أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ، قَدْ وَسِعَ النَّاسَ بَسْطُهُ، وَخُلُقُهُ، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا، وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً‏.‏

بِهَذَا، وَصَفَهُ ابْنُ أَبِي هَالَةَ، قَالَ‏:‏ وَكَانَ دَائِمَ الْبِشْرِ، سَهْلَ الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ، وَلَا فَحَّاشٍ، وَلَا عَيَّابٍ، وَلَا مَدَّاحٍ، يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِي، وَلَا يُؤَيِّسُ مِنْهُ‏.‏

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 33‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

وَكَانَ يُجِيبُ مَنْ دَعَاهُ، وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَوْ كَانَتْ كُرَاعًا، وَيُكَافِئُ عَلَيْهَا‏.‏

قَالَ أَنَسٌ‏:‏ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ‏:‏ لِمَ صَنَعْتَهُ‏؟‏ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ‏:‏ لِمَ تَرَكْتَهُ‏؟‏‏.‏

وَعَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-‏:‏ مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْسَنُ خُلُقًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا دَعَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا قَالَ‏:‏ لَبَّيْكَ‏.‏

وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ‏:‏ مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ‏.‏

وَكَانَ يُمَازِحُ أَصْحَابَهُ، وَيُخَالِطُهُمْ، وَيُحَادِثُهُمْ، وَيُدَاعِبُ صِبْيَانَهُمْ، وَيُجْلِسُهُمْ فِي حِجْرِهِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْحُرِّ، وَالْعَبْدِ، وَالْأَمَةِ، وَالْمِسْكِينِ، وَيَعُودُ الْمَرْضَى فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَيَقْبَلُ عُذْرَ الْمُعْتَذِرِ‏.‏

قَالَ أَنَسٌ‏:‏ مَا الْتَقَمَ أَحَدٌ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأْسَهُ، وَمَا أَخَذَ أَحَدٌ بِيَدِهِ فَيُرْسِلُ يَدَهُ حَتَّى يُرْسِلَهَا الْآخَرُ، وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ‏.‏

وَكَانَ يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَيَبْدَأُ أَصْحَابَهُ بِالْمُصَافَحَةِ، وَلَمْ يُرَ قَطُّ مَادًّا رِجْلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ حَتَّى يُضَيِّقَ بِهِمَا عَلَى أَحَدٍ‏.‏ يُكْرِمُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا بَسَطَ لَهُ ثَوْبَهُ، وَيُؤْثِرُهُ بِالْوِسَادَةِ الَّتِي تَحْتَهُ، وَيَعْزِمُ عَلَيْهِ فِي الْجُلُوسِ عَلَيْهَا إِنْ أَبَى، وَيُكَنِّي أَصْحَابَهُ، وَيَدْعُوهُمْ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِمْ تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَتَجَوَّزَ فَيَقْطَعُهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ، وَيُرْوَى‏:‏ بِانْتِهَاءٍ أَوْ قِيَامٍ‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْلِسُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ يُصَلِّي إِلَّا خَفَّفَ صَلَاتَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ حَاجَتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ عَادَ إِلَى صَلَاتِهِ‏.‏ وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَسُّمًا، وَأَطْيَبَهُمْ نَفْسًا، مَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قُرْآنٌ أَوْ يَعِظْ أَوْ يَخْطُبْ‏.‏

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ ‏:‏ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَعَنْ أَنَسٍ‏:‏ خَدَمُ الْمَدِينَةِ يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ بِآنِيَتِهِمْ فِيهَا الْمَاءُ، فَمَا يُؤْتَى بِآنِيَةٍ أَلَّا غَمَسَ يَدَهُ فِيهَا، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ يُرِيدُونَ بِهِ التَّبَرُّكَ‏.‏